كتبت أول رسالة وأرسلتها بالبريد حين انتقلت مع عائلتي إلى مدينة أخرى وتركت خلفي صديقات المدرسة وحياة تضج بالطفولة والبحر وحكايات الأطفال، كنت في الثالثة عشرة،شجعني والدي على كتابة رسائل لصديقاتي كمساعدة للتأقلم على المدينة والأجواء والمدرسة الجديدة، ذهب معي للمكتبة لشراء ظروف وأوراق، تذكرت خادمتنا آني ورسائلها واشتريت أوراقاً شبيهة: خفيفة جداً ، صغيرة، على أطرافها ورود زهرية وخضراء ولها رائحة معطرة ومعها ظروف ذات حواف مزخرفة ثم طرت بأوراقي للبيت وسطرت أول رسالة لصديقتي عبير أحكي لها عن أول يوم دراسي، كتبت لعبير في الرسالة أن ترد علي بخط مقروء فخطها يصيب قارئه بعسر الفهم ..كتبت بالأقلام الملونة ووضعت كثيراً من الستيكرز التي كنا نتفنن في جمعها واقتنائها. بعد أن أنتهيت أخذت أسترجع معلوماتي: في أي طرف من الرسالة أكتب اسم وعنوان المرسل..وفي أي جهة أكتب اسم وعنوان المرسل إليه.
سلمت أبي الرسالة كي يرسلها ومنذ أن وضعتها في يده وأنا أنتظر بفارغ الصبرعودتها إلي محملة بخط وقصص وأخبار عبير وصديقات مدرستي القديمة..
كانت الطريقة الأكثر حرية للثرثرة في عالم لم يعرف بعد هواتف الجوال كما أن وجود صفر يبتدأ به رقم هاتف الشخص الآخر يوحي لك بالبعد الذي لا يقربه منك اتصال هاتفي تتحدث فيه بصوت عال ظنا منك أنه بعيد وأن أسلاك الهاتف بينك وبينه طويلة وملتفة ومتشابكة..
كلما حمل لي أبي بعد ذلك رسالة من عبير أو منى أو أسماء أركض إلى غرفتي وأغلق الباب وأقرأ الرسالة بمنتهى السرية ثم أخرج فرحة من الغرفة لأقرأ نفس الرسالة على أمي في طقس احتفالي..
ربما استمرت عادة الرسائل تلك سنتين ولا أذكر كيف انقطعت ولا لم ..
على نفس المبدأ كنت أتبادل رسائل أدبية مع إحدى معلمات اللغة في المدرسة الجديدة ، كنت أكتب لصديقاتي الجدد اللواتي أراهن كل يوم..كنت أكتب لنفسي..كنت أكتب رسائل غير مرسلة لكثير من الأشخاص في حياتي..
كنت أدمن سماع أغنية: يا ساعي البريد عندك رسايل ..من خلي البعيد تدري ايش جرى له..
يا ساعي البريد الإفتراضي الذي لم أره ولا مرة..هل تعرف أحداً كان وفياً ومقدراً لمهنتك مثلي؟
...
الآن ..أنا أكتب لك منذ أكثر من اثني عشرة سنة غيرت فيها عنوان بريدي الإلكتروني مرة واحدة فقط..
ترد مرات قليلة ولا ترد عشرات المرات..تمنحني كلمات قليلة وتبخل علي بمئات الكلمات..تفيض أحياناً وتصاب بالقحط عدة سنوات..
ساعي البريد كان يشعر المرسل إليه أن الرسائل "فعل" عظيم..احتاج وقتا وجهداً ومشقة حتى يصل..لذا كان الرد فعلاً آخر لا يقل نبلاً وشهامة..أما الإنترنت فهو يشعر المرسل إليه أن الرسائل ثرثرة يكتبها الفارغون في أوقات مللهم ولا تأخذ منهم أكثر من ضغطة زر لتصل في أقل من لحظة..
لا تعلم أنت تاريخي الأثير مع الرسائل ، ولا تعلم ذلك الشد والجذب بيني وبين الضغط على Send بعد أن أكون قد أفرغت أفكاري وهواجسي ..قصصي ومشاعري في رسالة بلا أي هدف أكتبها إليك..
لماذا أكتب لك أنت وأنا لا أعرفك؟ لماذا تبدو رسالتي في كل مرة كمغامرة إلقاء قارورة في جوفها رسالة في عرض البحر؟ كم من رسائلي وصلت إليك وكم منها تاهت؟
أحياناً أشتهي أن أقف علي الضفة الأخرى معك، أرقب وصول رسالتي ، أتفرس في وجهك حين تقرأها وتفتحها ، أتنبأ ملامحك وأنت تتخذ قرارا بالقراءة ثم بالرد أو بإغلاق البريد أو حذفه والإلتفات إلى عمل كان قد قطعه صوت وصول رسالتي..
أنت لا تغلق الباب في وجهي بل تترك الباب موارباً دائماً وعلى مقبضه ورقة فارغة بلا أي دعوة..
ألا يغريني ذلك كل مرة بأن أفتح الباب وأدخل وأستخدم تلك الورقة البيضاء كما أشاء؟
أعرف أنك لم توجه لي دعوة خاصة، بل ربما هي دعوة مفتوحة للكل..
لكنني دوماً أتسلل..
كتبت لي مرة:
لا تتقنفذي في مشاعرك فكما تعلمين أنا لا أفعل شيئاً لا أود فعله لذلك كوني على ثقة أن رسائلك ...............
خلاص أغلقت الكتاب، نكمل القراءة بعدين..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق