في اليومين السابقين ضربت بريطانيا موجة ثلجية أغرقتنا..أغلقت المطارات وتوقفت كل وسائل المواصلات وحجز أبنائنا في المدارس ووصل الثلج حدا لا يصدق...
البارحة كانت المدارس مغلقة نتيجة لظروف الطقس لذا كان أبنائي في البيت وكان لدي رحلة مع الجامعة إلى مانشستر مقررة سلفاً..راسلنا الدكتور مارك يسألنا إن كنا نود الذهاب رغم الظروف إذ أن القطارات إلى مانشستر لم تتوقف..
كان أكبر تحد لي الوصول إلى محطة القطار في الوقت المناسب نتيجة لإغلاق الطرق..وفعلاً وصلت وهناك قابلت مارك و١٢ طالب آخر من بينهم صديقتي إليزابيث ..
محطتنا الأولى حين وصلنا كان متحف الفن في مانشستر Manchester Art Gallery
المتحف كان مختلفاً عن المتاحف التقليدية،، على سبيل المثال:
- المعروضات العالمية في قاعة الأعمال الفنية لم تكن مقسمة حسب التسلسل الزمني ولم تكن مقسمة حسب انتمائها الجغرافي ولكنها كانت مقسمة حسب موضوع أو "ثيم" معين..مثلاً : ما يخص المناسبات الاجتماعية كان معروضاً معاً سواء كان زي أسود قديم يلبس في العزاء في أوروبا..أو ملبس طفل أبيض يلبس عند بلوغ الطفل ٣ شهور في انجلترا أو جرة في الهند من العصور القديمة يوضع فيها رماد الميت بعد حرقه أو مجسم من الصين يرمز لفكرة تناسخ الأرواح عند الممات والولادة..بهذه الطريقة جمعت ثقافات العالم وعرضت عبر الأعمال الفنية. وهذه الطريقة تطبيق لنظرية النظر "بعولمة" إلى ثقافات الشعوب القديمة..
- كان هناك قاعة تفاعلية جميلة..كل عمل فني يمكن أن يطبق عليه فكرة تفاعلية يقوم بها الزائر..الأفكار بحد ذاتها كانت مبتكرة وكأنها أعمال فنية إبداعية لا تقل جودة عن العمل الأصلي المقتبسة منه..
- في قسم المعارض كان هناك معرض لفنان مكسيكي كندي اسمه:Rafael Lozano-Hemmer المعرض كان إلكترونيا ، كان الفنان يعتمد على الضوء والظل والصوت والتكنولوجيا وتفاعل الزائر واللعب على مشاعره الذاتية..مثلاً هناك عمل فني يحول نبضات قلب الزائر إلى ومضات ضوئية وآخر يجعل من بصمات الزوار عملاً فنياً وثالث يقحم صورة الزائر لتكون ضمن قطع فسيفساء التي تشكل مع صور الزوار السابقين لوحة كبيرة..


لم أر في حياتي شيئاً كهذا..حقاً قدم الفنان مفهوم حديث جداً لفكرة "العمل الفني" واستغلال التكنولوجيا..وبالمناسبة تحدثت معنا إحدى أمينات المتحف حين وصلنا عن الفريق الضخم الذي يعمل في هذا المتحف والجهد والدراسات التي يطبقونها كي يصل العمل إلى هذا المستوى وفي كل طابق كان مارك يذكرنا أنه لا فصل بين النظرية والتطبيق وأنه من رحم النظريات التي قد تبدو جامدة تولد الأعمال والمشاريع العظيمة..!
تجولنا بعد ذلك ونحن نرتجف من البرد في أنحاء المدينة..مارك المهووس بالعمارة والمباني وحارات المدن كأروقة للتاريخ والفن كان يشرح لنا علاقة التغيرات السياسية بتصميم مدينة مانشستر وطابعها الفني أذ أنها مدينة الريديكالية في انجلترا وفيها تمت حركات تحرير العمال أيام الثورة الصناعية من ظروفهم المعيشية السيئة كما أنها كانت تدعم أمريكا في حركة تحريرها للعبيد حتى أن أمريكا أهدت مانشستر تمثالاً لإبراهام لنكولن -محرر العبيد وموحد الولايات المتحدة- لا يزال قائما في ساحتها حتى الآن.
قلت لمارك: أتمنى أن ترافقني في جولة كهذه في مدينتي جدة..أنت تجعل لتاريخ المدن عبقاً ومعنى آخر..!
المكان الأخير كان The Imperial War Museum
كنت بردانة ومتعبة ولم أكن متحمسة للذهاب إذ كنت أظنه متحفاً يضم مقتنيات تعود للجيش البريطاني..لكن كان الأمر مختلفاً تماماً..المتحف كان يعرض التاريخ الإجتماعي للأمم من خلال الحروب..لم يكن يركز على حرب بعينها أو أمة أو عدو إنما كان يتناول الحرب كمعنى مدمر تتشارك فيه الإنسانية بغض النظر عن السياسة والدين..
مبنى المتحف كان غريباً، كان مقتبساً من المتحف اليهودي في برلين..كان بلا نوافذ ولا ضوء، مجرد شقوق في السقوف العالية تشعرك أن طائرات حربية تحوم فوقك..الجدران بيضاء مصمتة وتقسيم المساحات الداخلية تشعرك بالضياع والحيرة وهذا ما أراده مصمم المتحف تماماً..
كان المتحف يعرض أنواع الأسلحة ..أنواع ميتات الناس في الحروب..ماذا فعلوا بعد الحرب..الهجرة وإعادة بناء المدن المتدمرة..ضحايا الحروب من الأطفال..
في ساعات محددة كل يوم تتحول كل الجدران البيضاء إلى شاشات كبيرة تعرض أفلاماً عن الحرب والأسلحة وتجارب الناس.. الأفلام التي تحوطك من كل مكان تعرض بالأبيض والأسود والمؤثرات الصوتية من أصوات انفجارات ومسدسات وصرخات تحاول أن تضعك في قلب الحدث..
رغم أن هناك صورا ومقتيات من حرب العراق وحرب الخليج والحرب العالمية الأولى والثانية لم أصادف صوراً أو معروضات من الحرب الدائرة في فلسطين..فأصبت بالانكسار..
كنت أناقش هذا الأمر مع إليزابيث..قلت لها: بريطانيا ودول الكومنولث يعيشون في سلام ورخاء لذا لديهم القدرة والشجاعة على عرض معاناة تاريخ من الصراع بهذه الحيادية والوضوح رغم عدم تعرضهم لليهود وفلسطين لأسباب سياسية..أما نحن فما زلنا تحت وطأة الذكريات القريبة والمستمرة،،لا زالت الحروب وأسبابها وتداعياتها جرحاً في قلب الأمة..لا زال هناك طفل فلسطيني وعراقي ولبناني ينظرون للحرب كحياة يومية وليست حقائق قديمة قابلة للعرض في متحف...!!
تساءلت : لماذا تخلو مناهجنا في التاريخ من مثل هذه المواضيع؟ لماذا لم ندرس في المدرسة يوماً عن الحرب العالمية الأولى والثانية؟
.
.
في آخر اليوم عدنا إلى ليدز ونحن نرتجف برداً ونتضور جوعاً....وننضح أفكاراً...!!