السبت، 6 نوفمبر 2010

لندنية..!!

عن رحلتي إلى لندن:


قضيت في لندن يومين فقط مع الدكتور "مارك"  ذا الصوت الهادئ والرؤية الكلاسيكية والدكتورة" أبيجيل" ذات الفستان الأسود القصير دوماً والصوت العالي الممتلئ حماسة..وعدد من رفقاء ورفيقات كورس الجامعة..
ذهبت إلى لندن صباح الخميس مع صديقتي الإنجليزية الجديدة "إليزابيث" ، فتاة جميلة ذات شعر شلالي ذهبي طويل كقصة الفتاة في الغابة مع الدبب الثلاثة..أخذنا نتحدث طوال الرحلة عن أمور كثيرة..إليزابيث تقول أنها لا تؤمن بأي دين لكنها تصف نفسها "روحية" جداً وتقول أن التدين لا يقترن في مجتمعها بالضرورة بحسن الخلق والتسامح مما - في نظرها- لا يعطي المتدين أي أفضلية إنسانية حقيقية..! تحدثنا عن الحجاب كقناعة وكعادة اجتماعية..عن الحب والزواج..عن مقالاتنا المفترض أن نسلمها في آخر السمستر..
وصلنا إلى لندن وكانت محطتنا الأولى ال V&A وهو اختصار ل Victoria & Albert museum ولأنني وصلنا متأخرين عن باقي المجموعة فقد كان علينا أن نتجول وحدنا لنلحق ما فاتنا..


المتحف مقسم إلى أجنحة عدة مثل :جناج المنحوتات- جناح الأزياء - جناح الثقافة الإسلامية والشرق أوسطية وغيرها.. أما الجناح الذي كان من المهم زيارته هو الجناح البريطاني والذي يقع في طابقين.
التقسيم في هذا الجناح كان على أساس "التصميم" حيث كان يبدأ من القرن الخامس عشر ويعرض في كل جزء أهم أساليب التصميم المتبعة في جميع الفنون والأزياء والمنحوتات والللوحات والحياة بشكل عام..هذا التقسيم يؤكد علاقة أساليب التصميم بالحياة اليومية وبالسياسة والاقتصاد وبطرق التفكير، يظهر ذلك جلياً عن مقارنة عصر "الركوكو" بعصر "الباروك" مثلاً..
نسيت نفسي في المتحف ..لقد كان كبيييييراً..ضخماً..له هيبة ورهبة..مزدحم بالطلاب والزوار والسياح والأطفال..
لم يكن هناك وقت لتناول الطعام فتوجهت مباشرة للوجهة التالية حيث سيتقابل الجروب..لكنني ضعت ضياعاً مريراً في شارع اكسفورد المزدحم حتى وصلت أخيراً إلى  Wallace collection وهو عبارة عن منزل كبير تملكه عائلة wallace العريقة والتي كانت لها صلات قوية مع العائلة المالكة الفرنسية مما جعل المنزل أو "القصر" ذا طراز ومقتنيات خاصة فخمة وتمثل الطبقة العليا في ذلك الزمن..الجدران مكسوة بالأقمشة الحريرية المزخرفة والثريات ضخمة تتدلى من الأسقف العالية واللوحات الأصلية لكثير من الفنانين الفرنسيين محاطة بإطارات مذهبة وعريضة..


ذهابنا لرؤية هذه المجموعة كان تطبيقاً لإحدى قراءتنا عن الtaste أو الذوق وكيف كان الذوق الرفيع في القرن السابع عشر يمثل مظهر من مظاهر السلطة بجوار المال وتملّك الأراضي مما أثرى التنافس في إنشاء المتاحف وجمع المقتنيات الخاصة النادرة والثمينة كمظهر اجتماعي وسلطوي. في هذه الأيام كان الفن الفرنسي يعني ماري انطوانيت ونابليون وهذا يمثل قمة الهرم في الذوق الرفيع.


ذهبت مع أبيجيل - التي أصرت على أن أرافقها لأن كنيتي الجديدة صارت :الفتاة الضائعة، وليس من اللطيف أن يضيع الإنسان في لندن- إلى وجهتنا الثالثة...مشينا ومشينا ومشينا..قطعنا Oxford street ثم Bond street ثم Regent street حتى وصلنا إلى    Trafalgar square  خلال مشينا كانت الدكتورة تتحدث كيف أعيد بناء لندن بعد الثورة الفرنسية بطريقة بذخة وفخمة في سبيل إشعار الطبقة العليا والوسطى بالأمان الذي يمنعهم من إثارة أي زوابع سياسية خاصة في ظل الحكم الملكي، صورة لندن ومبانيها ،جسورها،قصورها بعد إعادة البناء كانت تليق بعاصمة إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس تعطيها الكثير من القوة والسلطة ليس في انجلترا وحدها إنما على مستوى العالم..
أليس هذا صحيحاً؟ أليست لندن حتى الآن رمزاً للقوة والثراء..للفن والأصالة؟ أليست من أغلى عواصم العالم؟ أليس لها وهج خاص لندني لا يخفت؟
وصلنا إلى ال National Gallery ..بعد أن صعدنا الدرج الطويل صرنا نطل على ساحة الترافيلجر سكوير والمزينة بالأسود وبعض التماثيل لفرسان إنجليز وعادت إبيجيل لتؤكد على فكرة السلطة والقوة اللندنية عبر رموز كالأسد والفارس المحارب وكيف أصبحت هذه الساحة رمزاً للندن يستخدم في كثير من الإعلانات والأفلام..


داخل الجاليري كنا متعبين جدا..نتجول بصمت..نجلس على الكراسي كما يفعل الكل مبحلقين في اللوحات المعلقة..
انتهى برنامج اليوم ولم ينته اليوم..كنت طوال ذلك أحمل حقيبتي على ظهري ولا أكاد أشعر بقدمي من فرط التعب والمشي..شيء آخر لاحظته..لا أدري لماذا الإنجليز خطوتهم سريعة ؟ لا يظهر عليهم أنهم يركضون رغم ذلك سرعتهم تصيبني بالجنون ولا تتفق مع خطواتي العربية الهادئة ..لذا كنت طوال اليوم "ألحق بهم" حتى لا أضيع..!
ألهذا السبب سبقونا؟ ألهذا السبب ما زلنا نحن العرب نلحق بركب الأمم المتقدمة ذات الخطوات السريعة؟
وصلت للفندق أنا وإليزابيث التي كان عليها أن تغادر في مساء نفس اليوم لليدز..حين صعدت إلى الغرفة أصررت عليها أن ترافقني وأن ترتاح قليلاً قبل أن يحين موعد قطارها..
الفندق يقع في Kensington صغير جدا لكنه أنيق ويبدو امتداداً للزيارات المتحفية التي قمنا بها، تذكرت أنني لم آكل شيء منذ الصباح. طلبنا العشاء أو ربما كان الغداء وتشاركنا الطعام مما جعل ليز تستغرب وتسألني كل دقيقة: هل أنت متأكدة أنك تريدينني أن أشاركك؟


ذهبت ليز واندسست تحت اللحاف الوثير و قدماي تئنان.. حتى ذهبت في سبات عميق..


استيقظت اليوم الثاني مبكرة نزلت وتناولت الفطور والقهوة في الفندق ثم عملت تشيك آوت وطلبت تاكسي للذهاب إلى وجهتي..
موظف الإستقبال اليوناني "اللطيف والجميل" جداً قال لي أنني لم أبق في الفندق بما يكفي وطلب مني وعداً بأن أعود،،أعلم أنه كان يسوّق لفندقه رغم ذلك أعطيته وعدي مبتسمة راضية..
بالتاكسي وحتى لا أضيع ذهبت إلى الBritish Museum وككل المتاحف التي زرناها كان مهيبا وكبيراً..


به جناح ضخم عن الفن المصري وآخر عن اليوناني والروماني أما الذي كان يهمنا زيارته فهو جناح عصر التنوير: The  Enlightenment  والذي يبدو كمكتبة ضخمة بها كثير من الكتب والمخطوطات بالإضافة إلى نوافذ العرض التي تحوي مقتنيات مختلفة،  قابلنا مديرة مشروع هذا الجناح وتحدثت لمدة ساعة ونصف..أهم ما جاء في حديثها:


احتفل المتحف البريطاني عام ٢٠٠٣ بمرور ٢٥٠ سنة على تأسيسه  وقد شكل السير هانز سلون -والذي كان طبيباً - المجموعة الرئيسية حيث كانت هوايته جمع الآثار. حين توفي عام ١٧٥٣ كانت مجموعته تضم ٧٩٥٧٥ قطعة جمعها من مناطق مختلفة من العالم هذا عدا مكتبته الضخمة ومجموعاته النباتية وقد أوصى أن تمنح مجموعته للملك جورج الثاني كي تظل سجلاً للأمة يحفظ تاريخ كثير من الشعوب، نقلت المجموعة بعد ذلك للبرلمان التي أرادت أن توفر المال لتأسيس المتحف ، وتم ذلك -كما تمول كثير من المتاحف في بريطانيا هذه الأيام - عن طريق "اليانصيب" . تم شراء بيت يعود إلى أواخر القرن السابع عشر ليصبح مقر المتحف ثم فتح المتحف أبوابه للناس عام ١٧٥٩ وكان الدخول مجاناً (بالمناسبة: كل المتاحف التي زرتها كان الدخول إليها مجاناً) وبسبب رحلات بريطانيا الإستكشافية الكثيرة حول العالم في هذا الوقت جُمعت الكثير من المقتنيات وأعطيت كهبات للمتحف. منها على سبيل المثال: حجر رشيد من مصر والرخام البديع من أحد معابد أثينا.


بالنسبة لجناح التنوير كان مكتبة مهداة من الملك جورج الثالث وغير الإسم إلى "التنوير" حيث يعرض من خلال المقتنيات طريقة التفكير والتصنيف في القرن الثامن عشر..
أعيد ترتيب الجناح قبل عدة سنوات إذ قسّم إلى سبعة أقسام تتناول قيماً فكرية مختلفة في عصر التنوير.
العمل كان ضخماً في هذا الجناح وقد كلف حوالي أربعة مليون باوند وعمل فيه فريق متكامل من المصممين والباحثين وأمناء المتحف.


أحببت ما تحدثت به الدكتورة وتمنيت أن أكون عضوة في مشروع ثقافي بهذا الحجم والضخامة وأحببت أن أطلع أكثر على قيم عصر التنوير وتطوراته لذا اشتريت كتابا عن هذا الموضوع.


انتهينا من المتحف البريطاني وذهبنا كمجموعة لتناول الغداء ثم ذهبنا إلى Museum of LONDON هذا المتحف كان مختلفاً لأنه كان ذا طراز عصري جداً..المتحف أعيد تدشينه في مطلع هذا العام بالتعاون مع شركات كبيرة ومصممين مشهورين، لذا استخدمت فيه أحدث الوسائل التكنولوجية في العرض. يعرض المتحف مقتنيات مختلفة عن التاريخ اللندني قبل أن تكون لندن ، عن الحريق الكبير، عن أعادة بناء لندن، عن حدائقها ومناسباتها الإجتماعية، عن الطبقة الغنية وممارسات حياتهم والطبقة الفقيرة وكيف يعيشون .. وكيف صارت لندن في العصر الحديث..المتحف يعج بالإضاءات والأزرار التي تضغط ..بأشياء تتدلى من السقف وأشياء تدوس عليها في الأرض..وبعروض ديجتال في كل جناح..


شعرت أن هذا يمكن أن يكون نموذجاً للمتاحف الذي يمكن أن يلاقي استحساناً وقبولا في مجتمعنا بما أنه ليس لديه تاريخ عريق في الثقافة المتحفية وتقديرها . مارك الكلاسيكي جدا لم يكن معجباً بهذا المتحف الذي يعج بالوسائل التكنولوجية والتي يمكن أن تصبح قديمة بعد عدة سنوات فقط..هذا المتحف أيضاً كان يعج بطلاب المدارس الصغار الذي يستقون من المعروضات معلومات لها علاقة بمنهجهم الدراسي ..كان الكل يمشي باسترخاء ومرح بدون همس ووقار كما في المتاحف الكلاسيكية الأخرى.
ذهبنا بعدها إلى Guildhall Art Gallery إذ توجهنا مباشرة إلى البيسمنت حيث أطلال حجرية لمسرح روماني قديم.. كان هذا مكان المسرح الأصلي وتظهر فيه البقايا الحجرية وأمامها شاشة كبيرة بحجم الجدار استكمل عليها بالإضاءة الليزرية ما تبقى من المسرح الروماني مع مؤثرات صوتية لجموع بشرية ..
دار في المكان جدل حول فائدة مثل هذا التوجه بين الدمج بين القديم جدا والحديث جدا وكالعادة كان مارك معترضاً على الفكرة لشعوره بأنها لم توصل المعنى المطلوب..
قارب اليوم على الإنتهاء وقاربت قدماي على البكاء لو كان لهما دموع..إلا أن مارك قال: سأذهب في زيارة أخيرة لمتحف أحبه جداً..من لم يأت معي فكأنه لم يزر أي متحف..
صمتنا جميعاً ..أعاد مارك مقولته وأضاف لديها :لستم مضطرين إن لم تكونوا تريدون...!
طبعا قررنا جميعاً الذهاب معه..
كان منزلا صغيرا في وسط لندن..الدخول إليه بمجموعات مع مراعاة بروتوكولات عدة كتسليم الحقائب وإقفال الجوالات..
لم أركز في إسم صاحب المنزل إذ كنت مشغولة بألم قدمي..كل ما أعرفه أنه كان مؤسس The Bank of England المشهور بتصميمه المعماري الفريد..


طبعاً استطعت سبب فهم إعجاب مارك به إذ كان بيتاً كلاسيكياً انجليزياً قديماً ولأن صاحبه مهندس معماري فذ فقد استخدم إبداعه في تصميم كثير من المساحات والنوافذ والزجاج الملون والمرايا التي تعتمد على الضوء والظل مما أعطى المكان أهمية مرموقة خاصة لدارسي الفن المعماري. الشيء الآخر الملفت أن المنزل كان يعج "عجيجاً" ويزدحم "ازدحاما" ويمتلئ "امتلاءا" باللوحات والمقتنيات والتماثيل حتى أنك لا تستطيع أن تهرب بعينك إلى أي مكان فارغ ليس به شيء...أظلمت الدنيا ونحن بالداخل..في هذا المتحف لا إضاءة فقط شموع موزعة في كل مكان..!!


وصلت حدي،،ولم يعد في ذهني إلا ألم قدمي..خرجنا ثم سرت وحدي تحت المطر وأخذت أندر جراوند للأكسفورد مرة أخرى وعند أول محل أحذية اخترت حذاء مريحاً ودفعت فيه الكثييييير دون أن آبه إلا براحة قدمي...
كنت أود أن أبقى أكثر في أكسفورد أستمتع بالكريب المحشو بالموز والمرشوش بالمكسرات والسكر وبواجهة المحلات المضيئة استعداداً للكريسمس .. وباحتساء قهوة داكنة في مقهى لندني أنيق...


كنت أود أن أسلم على البيج بن ولندن آي المضيئة ليلاً..وأن أذهب إلى مسرحية أدلل بها حواسي..
كنت أود أن أتجول في هارودز وسيلفريج وأتسوق ولو عبر المشاهدة "window shopping"وأن أتعشى في مطعم مرروش العربي..
.
.
لكن للأسف.. كان علي أن ألحق بالقطار.. عودة إلى ليدز الخضراء..:)







هناك 4 تعليقات:

  1. زرت لندن مرةً واحدة على عجل لم أتمكن فيها من زيارة أي متحف!
    وصفك الجميل للمتاحف زاد شوقي لزيارةٍ أخرى..
    قريبًا إن شاء الله...
    شكرًا ما ورد..

    ردحذف
  2. حاولي زيارة لندن هذه الأيام قبل الكريسمس..

    لا تنسى أن ترتدي حذاء مريحاً ومعطفاً ثقيلاً..

    ثم استمتعي :)

    ردحذف
  3. قريبًا إن شاء الله :)

    ردحذف

رسالة من ماورد شديدة اللهجة..

 اسمعي يا عزيزتي الثرثارة جدا.. والصامتة جدا بما أنك في الفترة الأخيرة منطفئة، حزينة، لا أحد يسأل عنك أو يكتب لك رسائل، ولا أحد يأبه بك  سأك...