- حين قررت أن أرجع لكتابة مذكراتي..كنت كمن يترك كل ما لديه من فلل وقصور وجسور فوق الماء ، ليعود أدراجه إلى سكنى بيوت الطين..
أليست بداياتي لولوج هذا العالم حين أخذت أسجل كل أحداث يومي بطريقة تقريرية خالية من أي شعور..؟!
لتبدأ بعد ذلك نسائم من أحاسيس ترافق كتابتي اليومية بشكل فج على هيئة : أشعر أن..أحس بـ...اليوم بكيت..اليوم فرحت...
ما لبثت أن تضخمت هذه النسائم وأصبحت دوامات وأعاصير وعواصف رعدية تبتلع لساني ولا تترك إلى إلا فسحة من ورق..!
الجميل في هذه المذكرات أنها كانت تبدو كعلبة ألوان عبث بها الأطفال وبعد أن ملوا منها جمعتها أمهم كيفما اتفق ثم وضعتها على أقرب رف..
علبة مذكراتي الورقية...بها أقلام داكنة، وأخرى كالحة، وثالثة زاهية..
بها رؤؤس قد تكسرت، وأخرى قد ذابت من فرط التلوين، وبعضها مدبب حاد كما هو يغري بالإستخدام..
بعد فترة فوجئت بقلم روج، وكحل غامق يندس في علبة ألواني الطفولية..
لتعلن أوراقي أن شيئاً من من "أدوات الكبار" قد بدا يغزو علبتها، وأن وضعها على أقرب رف لم يعد لائقاً وإنما لابد من تخبئتها في الأدراج السرية المحكمة..
لست أدري لماذا لم أكتف بأدوات النساء الناضجات وما زلت أحتفظ بكثير من ألواني القديمة بل وأستخدمها في كثير من الأحيان..
كتابة المذكرات لا تعترف بقواعد، ليس لأحد أن يحاسبني، أنه أنا كما أنا أندلق على الورق..بكامل ملابسي أو عارية إلا من ورقة توت..
ذلك شأني..!
- صحوت اليوم متأخرة، كانت الساعة تشير إلى التاسعة، قمت على عجل لأحتسي كوب قهوتي وأشيك على بريدي قبل استيقاظ أطفالي وقبل ذهابي للكلية..
ارتديت تنورة من الجينز الخفيف يزين ذيلها كنار من قماش مورد..ومعها قميص أبيض بكم حائر وياقة صغيرة..هل قلت قبلاً أنني أحب "الأجزاء العلوية" البيضاء، تلك التي تأتي ضيقة إلا قليلاً ملتصقة بجسدي وتظهر تباين ألوان وجهي وشعري؟
سمعت صوت صغيري وهو ينادي من غرفته، عندما خرجت لأتفقده وجدت الخادمة قد أعدت أفطاره ، سريعاً تناول سندوتشات الشوكولاتة وجاء إلى غرفة المكتب ومعه ديناصوراته الأثيرة..
جلس معي في ذات المساحة ، أخرج ألعابه وغاب في عالم آخر من نسج خياله الصغير، قلت له بصوت عال" سرور أحبك" فقال" هُبَّك أنا" وأكمل لعبه منزعجاً إذ كنت أملأ كل بقعة من وجهه الأبيض الشهي بالقبل..
بعد أن اطمأننت أن الفتيات قد استيقظوا ودعتهم وذهبت للكلية كي أسلم أوراق ونتائج الإختبار الذي قضيت يومين من الملل في تصحيحه، قالت لي سديل متغنجة"ماما لا تتأخري" أجبتها "ساعة فقط وأعود" .
لطالما بدا لي طريق الكلية الطويل موعداً يومياً لخلوة أنتظرها..أحياناً أتلو الأذكار، وأحياناً أخرى أقرأ كتاباً ، وتارة لا أفعل شيئاً سوى التأمل في الشوارع وواجهاتها الغبية، وفي بعض الأيام أسمع الإذاعة..
وجودي اليومي مع السائق لا أعتبره خلوة شرعية على أية حال، بإمكاني أن أقول أنها "خلوة نفسية" ، وأنا التي قد تربت على المشاوير الطويلة منذ صغري..
لم تكن المدرسة في أي من مراحلها بقرب المنزل، بل من شروط دوام المدرسة اليومي لدي أن تزيد عليه نصف ساعة ذهاباً ومثلها إياباً ، لعل ذلك هو السبب في أني لم أجد حرجاً في إرسال بناتي إلى مدرسة تقع في الطرف الآخر من المدينة ، ربما أًصبح هذا في منزلة عرف عائلي قديم..
وحدها الثانوية قضيتها في مدرسة نوعاً ما قريبة من منزلي، كان مشواري الصباحي مباغتاً جداً لا يكفي أن أجهز مزاجي لإستقبال يوم جديد، وأظن أن هذا المشوار كان يشبه كل شيء في ذلك العمر..مباغتاً ، حاداً، فجائياً..
اليوم كان معي في خلوتي الصباحية رواية "الأوبة" لست أدري لم كل هذا الزخم من الروايات الصادمة يملأ أفق السماء، البارحة فقط انتهيت من "الآخرون" والتي سميت الرواية الأجرأ ، والآن أنا عالقة بين صفحات روائية أخرى تزفر في وجهي وتبكي على صدري وتبوح بكل ماهو ممنوع..!
- وصلت للكلية ، دخلت مكتبي وجدت السكرتيرة ، وبوفاء أحبه قالت لي أنها انتظرتني كثيراً على الفطور ولكني تأخرت، حملت أوراقي بعد أن عدلت فيها بعض الأشياء وذهبت إلى تلك الغرفة البيروقراطية" الكنترول" سلمت الأوراق بعد عدد من التوقيعات والمراجعات والتدقيق الذي لا معنى له وانصرفت تاركة نتائج امتحان مادتي بين يديهم يعاملونها ككنز طال انتظارهم له، كيف لا ومادتي كانت مدرجة في آخر يوم من أيام الإختبارات ، ولم يبق إلا هي كي ترصد تمهيداً لإعلان نتائج الفصل الأول.
عدت إلى مكتبي ثانية لتطل علي تلك الفتاة ال.... ،ال....... لا أدري.. بقيت لأكثر من دقيقة أحاول أن أصفها بشيء يناسبها ، أي صفة!..ولكني فشلت، وبما أن اسمها سيتكرر كثيراً في مذكراتي، سأسميها "مريم".
غمغمت بصوتها الذي يبدو خارجاً من بطنها:" وحشتيني أستاذة"
لم أرد..
عادت وقالت:" هل قرأت المسج الذي بعثته البارحة؟"
نظرت إليها بنظرة عتاب فقالت: "شفيكي استاذة؟"
قلت لها:" لا شيء"
قالت لي: "أشتاق أن أجلس معك وحدنا ونتحدث"
أيضاً لم أرد، تشاغلت بجمع حاجياتي، قلت لها: "سأذهب الآن"
وتركتها وانصرفت.
وأنا أحث الخطى نحو الباب للخروج من الكلية وجدت "خالة شعبونة" تجلس مع إحدى خالات الكلية يتحدثان..
يالله، لكم أحبها هذه المرأة..باسمها الغريب،بلونها الداكن وشيلتها السوداء ، بعمرها الذي لا أدري إن كان له بداية أو نهاية، بطيبتها التي تلاحق كل دعواتها الصادقة بأن يحفظني الله ويحفظ أبنائي ، بسؤالها عن حالي وهي الأحوج مني بالسؤال..
لقاء عابر مدته 10 ثوان ومجموعه سلام ودعوة ، كان كفيلاً بمنحي زاداً يبقيني على أهبة "الخير" طوال اليوم.
- اليوم هو الأربعاء، حيث نتناول طعام الغداء في بيت أمي، غداء يضم فتيات ونساء عائلتنا الحميمة ، يقطع علينا خلوتنا سارية الصغير وأحياناً أخي الوحيد، مذ جلست على الكميوتر الآن وأنا أتقاطع ألف مرة:
أمي ماذا أرتدي؟
أمي مشطي لي شعري
أمي سارية أخذ ريالاً من حقيبتك
أمي متى سنذهب بيت جدتي؟
أمي سأحادث خالة ديانا
أمي هل لديك رقم خالة بسمة؟
ومع كل هذا العدد الهائل من الأسئلة التي نتهال عليها يومياً كقضاء محتوم صرت كمن يحتفظ بكم من الردود الجاهزة تشبه "الآنسر مشين" ولا تحتاج إلا أن تضغط منها ما تريده من أرقام..!
الساعة الآن الثانية إلا ربع، الفتيات جاهزات، متحممات، مبللات الشعر..
وأنا بقي أن أصلي وأجهز حقيبة سارية لنمضي كلنا ..
قد أعود في المساء..
وقد لا أفعل..!
الاثنين، 14 يناير 2008
أنا يوماً بعد يوم..
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
أنت وصديقك
ليس للحياة معنى..إنها ماضية فقط...ماضية وغير آبهة بأي أحد.. تمر فوقي وتتعداني دون أن أشعر بها..صامتة دون صوت..رمادية دون لون.. متى ستنتهي ...
-
البارحة وأنا ذاهبة لعملي في الصباح، طلبت من السائق أن يفتح إذاعة الـfm كتصالح صباحي مع الأثير والطريق الطويل إلى العمل.. حوارات ، أغان..ثم ف...
-
مدينتي الصغيرة تبدو أشهى وأجمل مع وجود عائلتي هنا.. أمي وأبي يأتيان صباح كل يوم مع خبز طازج..وأجبان منوعة..وقبلة تدفئ برد أول النهار.. أختاي...
أتسمحين ؟!
ردحذف/
بيوتٌ طينية .. عذبةٌ جداً أحبها وأستنشقُ رائحتها الندية .. تعلمين أني أشتاقها يومياً ..
خاصة في تلك الأوقات التي يشعرُ المرء فيها بالحاجةِ إلى الوفاء والصدق .. والحنين اللا مفتعل ..
بقدر ماتعتبر كتابة اليوميات روتينٌ وكفى إلا أنها في نظر الذكي الرصين .. كنز ثمين لا يُضاهى فيها صباهُ وشبابه، وكهولته ، وكل أشباه العمر ..
كليةٌ وطالبات .. تصحيحٌ وكنترول .. أجواءٌ شهيةٌ حدّ الرواء .. هذه الأجواء بالذات تعطي العقل فرصةٌ للإتساع رويداً رويداً حتى لا يشعرُ المرء بهذا الإتساع إلا حين يهمّ مغادراً هذه الأبواب ..
يمتلي اليوم .. تتكدسُ الأشياء .. لكن ثمةُ راحة في آخر المطاف :)
يا إلهي..!!!
ردحذفبالطبع، أسمح..
أتعلمين..أنت هنا كمن فتح الأدراج القديمة، ورغم بعثرتها ، أخذ يصنفها، يرتبها يزيل الغبار عنها..
ثم تسألينني ..أأسمح؟
هل أجمل من أن تجد يداً تمسك بقلبك مخافةأن يهوي وتعينك على ترتيب فوضاك مرة أخرى؟
هذا ما تفعلينه أنت هنا..
لكن دعيني أنا أسأل بدوري..:
هل تغفرين؟
هل تغفرين مرورك على أحرف ستكون مملة أحياناً، متمردة تارة، عابثة، ساخطة، نائمة ، هائمة..!
أغفري لي إن أضعتك ما بيني وبيني ، فخط زمني الذي بدأته هنا-وحاولت أن يكون مستقيماً- أخذني إلى مساحات غير مأهولة مني، فصار خطاً متعرجاً متعثراً ..
..
..
شكراً لك شجاعة الخطوة الأولى:)
محرجةٌ بصدق .. محرجةٌ جداً :$
ردحذفأنى لي بوجهٍ يقفُ شامخاً بعدَ تراتيل الترحيب الكريمة!!
بداخلي روحٌ شقيةٌ بدأت تعبثُ حتى أسفر العبثُ بين أغراضُكِ..
لكني أعدُكِ أن أتلقف الحرفَ رويداً .. وأشم العطر الهويدى.. لن أخدش جدار .. ولن أكسر آنية .. ولن أُسقطَ عتبة من مكانها..
وتسألينني أأغفرُ أم لا ؟
أعتبُ عليكِ هاهُنا ..
الدارُ دارُكِ يا أخية .. ولستُ إلا ضيفةً تشربُ القهوةَ كما تشربُها صاحبةُ الدار .. ويكفيها نوى تمرٍ تعيدهُ في الإناء وتستحي منهُ أيضاً .
إن زهر الحدائق جذعهُ متعرجٌ متمردٌ لكنهُ .. ذو عَبَقْ
تقاطيعُ شكرٍ أضعها في يدكِ :)