السبت، 20 أغسطس 2011

هنا جدة..(٢)

قبل أن أكمل أسبوع في جدة عائدة من بريطانيا قرر أبي أن يأخذنا في رحلة إلي "البلد" أو جدة القديمة أو the city centre كما يقول سارية..
لطالما قمنا بهذه الرحلات برفقة أبي في رمضان أو في العيد أو في أوقات متفرقة من السنة، الزحام كان على أشدّه ولم نجد موقفاً للسيارات إلا بصعوبة ، مشينا من عند عمارة الملكة وسوق قابل، كانت محلات البليلة تدلل على بليلتها التي يبيعها شبان يلبسون العمة الحجازية، توقف أبي وأشتري للكل ، بعدها بخطوات كانت عربة تبيع التفاح المغطى بالسكر الأحمر والتي يهتف صاحبها : تعالوا جربوا كلام نواعم ، ولست أدري كيف حوّل تفاحة آدم إلى كلام نواعم..!

في شارع قابل كان أبي يحدثني عن بعض المحلات القديمة التي ما زالت عالقة في ذاكرته ولكنها اختفت من السوق: هنا كان محل محسن أول دكان لبيع الأحذية ، وهنا كانت بقالة لطالما مررت عليها، وهنا كان دكان صاحب أبي الذي توفي أثناء جلوس أبي معه في المحل......





مشينا حتى وصلنا إلى بيت نصيف ومنه إلى بيت خميّس، كان أبي يمسك بيد سارية ويتحدث معه حديثاً طويلاً وسط إنصاته ودهشته وكثير من أسئلة، كان يسأله عن مدرسته وكيف يذهب إليها، عن وجود السيارات، عن بيته وفي أي غرفة بالظبط ولد ،ختمنا رحلتنا بالذهاب إلى كبدة عم أحمد، أكل الرجال بشراهة أما نحن- ووسط هذه الأجواء التي لا تشجع كثيراً على الأكل-اكتفينا بالإبتسام ونحن نستمع إلى أصوات اللذين يطبخون الكبدة وهم يغنون ويتسامرون...
بعد أن خرجنا من محل الكبدة عائدين إلى سياراتنا - ورغم أنني كنت أمشي بين أبي وزوجي- صرخ أحدهم مودعاً: بالعافية يا قمر..!!!
في كل مرة أذهب للبلد أشعر بالحنين لشيء لست أعرف ماهو، هذه المرة أيضاً شعرت بالغصة على جمال المنطقة الذي يتلاشى بسرعة بسبب طغيان الإهمال على روح البلد الأصيلة وكثرة العمالة و الشحاذين والوافدين والوساخة ، بجوار بيت نصيف هناك لوحة تحمل مسمى "مشروع تطوير البلد" وفي نفس اللوحة عنوان جانبي: بقي من المشروع: .......... كنوع من الشفافية ، لكن لا يوجد أي رقم أمام هذا العنوان الجانبي إلا فرااااااااااغ لا أحد يعلم متى سيمتلأ...!

حين عدنا للبيت ، حكى لي أبي حكاية كحكايات كثيرة حكاها لي فيما مضى، تلمع عيون أبي حين يحكي لي هذه الحكايات ،يفتح لي باباً على ذاكرة ممتلئة بالكنوز..يجلسني أمام الروشان المزخرف وعلى ايقاع صوت جدتي وهي تنادي في درج البيت القديم، وعلى ضوء إتريك الجد ألماس العجوز أخذ ينفض الغبار عن إحدى زوايا هذه الذاكرة... 
قررت هذه المرة أن أكتب الحكاية على لسان أبي..!

صاحب الأتاريك

جدي إسمه ألماس وهو في حياتي ما زال يبرق فعلاً رغم مرور سنوات طويلة على وفاته، ولأنني أكبر إخواني فقد اعتبرني "سِيدي" أصغر أبنائه، كنت أرافقه في كل مكان وكل مجلس، أنظر بعيون مندهشة إلى هذا الجد الذي يستطيع أن يكلم كل أحد ويحل كل المشاكل ويقيم أود بيت بأكمله ممتلئ بالأطفال والنساء.. وأنا ممسك بيده دخلت عتبات مدرسة الفلاح ولم أخرج منها إلا منهياً دراستي النظامية كلها، ولأنه كان يسأل عني بحزم إن تأخرت تعلمت معنى الإنضباط..ورغم أن سيدي لم يكن يفكر في الغد أو يخطط للمستقبل إلا أنني تشربت منه حب العملة التي يمثل وجهها الأول قيمة العمل الجاد وعلى وجهها الثاني قيمة حب الأسرة ، هذه العملة التي كانت تشكل له كنزاً أهم من أموال الأرض قاطبة..!
أذكر مشهداً ما زال محفوراً في ذاكرتي حتى الآن: كان سيدي قد تعاقد مع بلدية جدة لإنارتها بالأتاريك، وذلك قبل دخول الكهرباء كأول مشروع إنارة في جدة. كان يحضر الأتاريك يشعلها ويوزعها على الحواري والأزقة حتى تمتلئ نوراً وتفيض، ولم يكن لدى البلدية أموال يعطونها له في ذلك الوقت مقابل مشروع الإنارة فعرضوا عليه أن يعطوه أراضي في الهنداوية وفي مناطق أخرى ، رفض بشدة وقال: تعطوني أراضي في الهنداوية؟ ماذا أفعل بها وهي بعيدة كل هذا البعد؟ لن آخذ أية أراضي، سأنتظر وإن استلزم الأمر عدة سنوات حتى يمكنكم أن تدفعوا لي نقداً..
واستمر سيدي في إنارة جدة بالأتاريك ولم يسأل عن أي مقابل حتى مرت عدة سنوات وقررت البلدية أن تمنحه أمواله. 
في ذلك اليوم فوجئنا بسيدي يقود حماراً يجر عربة"فرش" كبيرة وهو نوع من العربات مختلف عن العربية الكارو، كانت العربة لا تستطيع الدخول إلى الزقاق الضيق أمام باب البيت، لكنه وبعد جهد طويل استطاع أن يحشر العربة في هذا الزقاق  والتي امتد عرضها من بيتنا حتى البيت الأخر المقابل. امتلأت العربة بصرر كثيرة كثيرة لا أستطيع أن أحصيها . كل صرة مملوءة بريالات فضة كثيرة..
أخذت أساعد سيدي وأنزل هذه الصرر من العربة إلى باحة البيت. وحتى يومنا هذا لا نعلم أين ذهب سيدي بالصرر..أين أخفاها أو دفنها..
يقول الأقدمون ، أن الكنوز غالباً ما يقف عليها جني حارس يمنع وصول أي أحد إليها حتى يأتي زمن الشخص المقدر له أن يجدها..ونحن الآن لا نعلم من هو هذا الشخص ومتى يأتي الزمن..
كلما نظرت إلى جدة الآن وإلى كل هذا الوهج من جراء أضوائها في كل طريق وشارع وزواية أقول: رحمك الله يا سيدي صاحب الأتاريك..

انتهت قصة أبي، ولم ينته ولعي بها وبجدي الكبير وحكاياته وبكنزه المخبوء وتسائلي أنا وإخواتي وأبنائي عن صاحب الحظ الذي سيجد هذا الكنز الخرافي...


هناك 4 تعليقات:

  1. Amani

    زيارة جدة القديمة تحمل معاني عميقة لي ولأسرتي واكون دوما الدليل السياحي للأولاد خاصة وأن زوجي ليس من أبناء جدة ،،، لم نسكن في المنطقة التاريخية انا وأخوتي ولكن كنا نزورها دوما للتسوق والنزهة أيضا ،، هذا العام الزحام في المنطقة منعنا من زيارتها ، بالإضافة إلى تجمعات العمالة الوافدة وكثرة سيارات الأجرة والفوضى المرورية ووووووووو أحسد كل سكان جدة على صبرهم واستمرار حبهم لك ياجدة ... سنزور المنطقة في ثالث أو رابع أيام العيد حيث يكون الهدوء قد عاد لحواريها وأزقتها الضيقة وبسطات البليلة وحلاوة العيد لاتزال تعمل ...

    ردحذف
  2. أعجني قولك أنك تحسدين سكان جدة على صبرهم واستمرار حبهم لمدينتهم..
    وهل بوسعهم فعل شيء وهم "طرش بحر"؟
    المشكلة يا عزيزتي ليست في الزحمة، بل في كمية الوساخة التي أنصحك أن تستعدي منذ الآن وتعودي عينيك على تقبلها كشيء عادي ومسلم به..

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  4. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

أنت وصديقك

 ليس للحياة معنى..إنها ماضية  فقط...ماضية وغير آبهة بأي أحد.. تمر فوقي وتتعداني دون أن أشعر بها..صامتة دون صوت..رمادية دون لون.. متى ستنتهي ...