الجمعة، 23 يناير 2009

مياااو الخير (14)


حافيــــــاً....
"سأذهب معكم.."
بهذا أجاب شلة أصدقاءه حين سألوه إن كان يريد أن ينضم معهم إلى رحلة البر..
تعجب أحد أصدقاءه حين رد عليهم بسهولة بدون تردد وبلا عناء من جانبهم كي يقنعوه..فلطالما كان هو الشخص المهم في الشلة صاحب الإرتباطات العملية والجداول الممتلئة المعدة مسبقاً..لهذا كان سريعاً ما يعتذر عن أي ارتباط "فلاوي" يضيع له وقته بحجج وأعذار لا تنتهي.
أجل ، كان يريد الذهاب..بكله كان يريد ذلك..كان كمن أدار وجهه للجهة الأخرى من حياته بعد أن صفعته وقرر أن يعود إلى مفترق طرقه ليسلك طريقاً آخر..وعند مفترق الطرق ذاك كان لابد أن يرتاح قليلاً من وعثاء سفره..يلملم أشتات نفسه، يسطو على وقته ويبعثره كيفما يشاء..وقد يقرر بعدها الإنطلاق مرة أخرى في طريق آخر..!
هناك... في البرية..حيث لا صوت ولا تدخل بشري كانت نفسه تنثال مع تعرجات الرمال ونظراته تضيع في أفق السماء اللامتناهي..ورغم صخب الشلة الغير بريء أحياناً وضحكاتهم الصاخبة التي لا تتتعدى أذنه كان يغوص في أعماقه ويغرق بصمت.
انسل من الجلسة المعدة جيداً..ومضى يمشي وحيداً باتجاه الغرب..
نظر إليه أقرب أصدقائه إليه..همّ بمرافقته والمشي معه، لكنه في آخر لحظة احترم خصوصية يقدرها في صديقه الذي يعلم جيداً أنه يمر بأزمة من نوع خاص وأن عليه أن يعالجها بطريقته وحده.
خلع حذاؤه الرياضي ، تذكر طفولته التي كان لا يلعب فيها إلا حافياً..على الشواطئ الرملية الناعمة قرب بيتهم القديم، أو على الإسفلت الساخن،أو على العشب الندي، أو بلاط الحديقة المتعرج..وحتى لا تعنفه والدته كان يخرج بحذائه، ثم يخفيه في مكان آمن، ويعود للبسه مرة أخرى قبل أن تلمحه والدته وهو داخل إلى البيت..
الآن..لا أحد يراقبه، وبافتراض أن والدته كانت هنا، هل بوسعها حقاً أن تقول له " لا تمش حافياً!!" !؟
ليتها تفعل ذلك..ليتها .. ! إنه إحساس فقط أن شخصاً ما ينوب عنك في كل مهامك ويتحمل عنك حتى مسئولية قدمك..وما أحوجه إلى ذلك الشعور الآن..!
كان لديه فلسفة خاصة حول المشي بدون حذاء، إنه كما يقول اتصال خاص مع محيطك والطبيعة من حولك، ألا يقولون أن كل الأعصاب تتركز في الأقدام؟ لهذا كان يترك أولاده دون تدخل منه إن خرجوا حفاة إلى حديقة المنزل، ولهذا أيضاً كان كثيراً ما يختلف مع صديقه حين يقررون أن يصطحبوا أولادهم في رحلة بحرية..إذ كان لا يأبه إن لم يرتدي أطفاله أحذية البحر المطاطية وكان صديقه يجن جنونه لذلك ويحضر معه أحذية بحر إضافية ليتأكد من أن الكل محصن ضد الكائنات الغريبة والصخور المدببة والشعاب المرجانية وكل أنواع المخاطر التي تملأ بحرنا الأحمر كما يقول..
غاصت قدمه في الرمال الذهبية حتى الكاحل..كانت تحوط أقدامه برقة محاولة استبقاؤه داخل أعماقها..لكنه رغم ذلك كان يرفع قدمه بثقل فتتسرب حبات الرمل الصغيرة بمراوغة شهية ما بين أصابعه..دافئة..ناعمة..تنشر فيه تياراً يسري في كافة جسده يملؤه بإحساس صاعق..
لماذا في سنواته الأخيرة قرر إرتداء أحذية أنيقة وجوارب سميكة وترك المشي حافياً حتى على أرضية سيراميك المنزل؟
لماذا ترك نفسه لتنجرف إلى ما هو سائد ومقبول ومعقول في محيطه الإجتماعي؟ الأنه صار رئيس شركة..وكاتب مرموق ..وشخص تكتب عنه الصحف أحياناً فلابد أن يرتدي تلك العباءة المستنسخة التي يرتديها الكل ويدس روحه في حذاء أنيق أسود لامع ذو ماركة مشهورة؟
أكمل مشيه نحو الغرب..كان أمامه كثيب رملي يعطي ظلالاً سوداء بفعل الشمس التي أحمرت وأخذت تنشر آخر سطوة لها على كل ما تحتها ..السماء كانت ملونة بعبثية جميلة، وكأنها جدار شخبط عليه طفل بالألوان وهرب قبل أن تكتشفه أمه.
هاهي روحه حافية من كل شيء أمام هذه الأجواء المهيبة..تكاد تتقطر دموعاً في عينيه لتروي جفاف الرمال الدافئة رغم نسمة الهواء الباردة التي أخذت تتلاعب بشعره.
شعره..!
شعره مؤخراً صار طويلاً لا يليق برجل في منصبه، وهو لا يعلم أهي أزمة منتصف العمر كما يؤكد له صديقه، أم أنه تذكر على حين غفلة من قلبه تلك التي قبل عدد طويل من السنوات قالت له: أحب شعرك طويلاً حتى كتفيك، لا تصدق من يقول أن شعر الرجل الطويل أنثوي الطابع، في حالة شعرك الأسود هو وصف متطرف للرجولة"
ابتسم وقتها وكان مشغول القلب بها عن أن يطبق كلامها حرفياً كما يفعل المراهقون لأحبائهم، الآن فقط جاء كلامها بأثر رجعي فترك شعره يطول وهو يعلم جيداً أن التي تحب شعره طويلاً لن تراه لأنها اختفت في ركن قصي من الحياة..
لماذا يتذكر الآن أمه..وطفولته..وحبيبته..وهزائمه؟ لماذا وهو لديه عمله وأسرته وانجازاته؟ لماذا يدور كل منهم كإعصار رملي صغير داخل روحه يبعثر كل ما قام بترتيبه وتصنيفه على مدى سنوات عمره الماضية؟
أهو التجرد أمام هيبة الطبيعة؟ أم أنها الحياة التي كلما رأتك "مرتباً" أكثر من اللازم ترسل عليك ريحاً عاتية لتحيل أدراجك السرية التي أخفيت فيها جموحك، وأرففك التي رصصت عليها إنجازاتك، وصناديقك التي أخفيت فيها هزائمك إلى فوضى عصية على التحكم والترتيب..
قال في نفسه برضى: لا بأس..! إنه يشعر بشيء من موسيقى الصمت تمتلئ بها روحه المتشظية..شيء لا يستطيع أن يمسه أو يراه ، شيء يملؤه سكينة ويبعثره مع خطوط الشفق الغاربة إلى آخر نقطة من السماء..
عبر الكثيب الرملي ووجد أن المنظر خلفه لا يختلف كثيراً، إن روح المكان أصيلة..غامرة تحوط أقدامه الحافية وروحه الحافية بأسرها العميق..


استدار راجعاً كانت الشمس قد اختفت وبدأت الظلمة تلف المكان، رأى ناراً من بعيد فعلم أن أصدقائه قد أشعلوا الحطب ، سار باتجاه النار وهو ما يزال غارقاً داخل ذاته حتى شعر بشيء حاد يقرص رجله وهي تغوص داخل الرمال، كان الظلام يمنعه من رؤية ذلك الكائن الصغير الذي تجرأ عليه..لكنه على الأقل ذكره بضرورة ارتداء حذائه مرة أخرى..
في طريقه للعودة لم يجد الحذاء..صوت ساخر رد عليه في داخله:" طبعا لن تجده فالرمال البكر التي كنت تمشي عليها أثناء عودتك لم تكن عليها آثار خطواتك، كانت تخبرك أنك سلكت طريقاً آخر، فكيف ستجد حذائك؟!"
لم يأبه كثيراً بهذا الصوت..ولم يأبه أكثر بفقدان حذائه..

.

.
..رائحة الشواء قد سيطرت على حواسه في الوقت الذي كان يسلك طريقاً آخر ..حافي الروح!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنت وصديقك

 ليس للحياة معنى..إنها ماضية  فقط...ماضية وغير آبهة بأي أحد.. تمر فوقي وتتعداني دون أن أشعر بها..صامتة دون صوت..رمادية دون لون.. متى ستنتهي ...