اتصلت بي فاطمة الصغيرة صديقة ابنتي وقالت في التلفون بنبرة جزعة: خالة أروى ممكن تكوني مديرة اللقاء الجاي في نادي القراءة؟ قلت لها: ولم أنا يا فاطمة؟ من كل عضوات النادي لم لا تختاروا واحدة كما تفعلون دوماً؟ قالت لي: أرجوك، لا وقت لدينا ولا مديرة حوار أيضاً..عرفت من أمها لاحقاً أن الكتاب"ثقيل" عليهن وأنهن لا يجدن المديرة المناسبة وأن فاطمة تراني بشكل ما" أشبه الكتاب جداً" ..
تعجبت من هذا الوصف ، والحقيقة أنني لم أقرأه قبلاً وإن كنت قد سمعت عنه، فطلبت منها أن تبعث لي بنسخة عن البيت ، اسم الكتاب" ألواح ودسر" وهي كما كتب على غلافها رواية استثنائية في عالم استثنائي..
منذ أن بدأت المقدمة أعجبني الكتاب جداً ، لم أنهه بعد ، لكن قراءتي له جاءت في الوقت الناسب..
ذكرتني حوارته الناضجة جداً بلقاءات الفلسفة التي أحضرها وبكم الأسئلة التي نطلقها من رؤسنا وتظل محلقة إلى ما بعد ذلك بكثير..وإحساسي أن ثمة كثير من أناس غيري في ذلك العالم الشاهق ذو السلالم الطويلة الصاعدة نحو السماء..
ذكرتني بمسلسل يوسف الصديق الذي كنت أتابعه وانتهيت من آخر حلقة منه البارحة فقط، وقد كان بحق عملاً درامياً ..
وبما أن "الألواح والدسر" قد رست بي عند هذا شط يوسف الصديق، فسأكتب عنه كما رأيته:
- المسلسل ذو انتاج إيراني ودبلجة عربية، ورغم كل اللغط من مجمع الإفتاء اللذين اعترضوا على تمثيل سيدنا يوسف ويعقوب عليهما السلام -فإن نسبة المشاهدة في العالم العربي كانت مرتفعة جداً..سؤال: لم هو محرم تصوير الأنبياء إن كان ذلك يظهرهم بصورة لا تتعارض مع النصوص القرآنية؟ ألا يشعر الناس بهذه الطريقة أنهم أقرب للقصة وأبطالها ويعطي بعداً درامياً وواقعياً للعمل أكثر؟ سيدنا يوسف الذي أوتي شطر الحسن، أكان مناسباً تصويره عبر شاب مهما كان جميلاً أم أنه من الأفضل ترك العقول لتتخيل هذا الحسن الغير متخيل؟
- أحداث المسلسل لا تتعارض أبداً مع النص القرآني، لكن هناك الكثير من التفاصيل التي قد يكون كتّاب المسلسل استلهموها من بعض الأحاديث أو من الإسرائيليات، قصة يوسف هي القصة الوحيدة التي جاءت في القرآن على مرة واحدة وفي سورة كاملة وبسياق متسلسل، كعمل فني درامي، هل يضر به إن فُسّر بطرق مختلفة وملئت الفراغات بخيال الكتّاب ؟ إن كان الله عز وجل أراد أن يورد مزيداً من التفاصيل في القصة لذكرها ، أليس في هذا إشارة إلى أن الباقي غير مهم فنملئه بما نشاء؟ أم غير مهم فلا داعي للتفكير فيه؟
- لطالما كانت قصة سيدنا يوسف تعني لي شيئاً مختلفاً منذ حداثة عمري، ولعل أول قصة حب قرأتها في حياتي كانت قصة الحب التي من طرف زليخة لسيدنا يوسف، صوّر المسلسل هذا الشغف بطريقة قد نجدها مبالغاً فيها، لكن قد تكون صحيحة..في آخر المسلسل تكتفي زليخة بحب وعشق خالق يوسف عن يوسف، فهل هذا صحيح؟ أكان حبها ليوسف نوعاً من العبودية؟ إن كان كذلك لما قالت "هيت لك" وفي هذا الطلب إشارة لرغبة جسدية واضحة؟ إذن هل يتحول العشق الذي يحتاج رياً للجسد لعشق صوفي يحتاج رياً للروح؟ وهل شغف يوسف زليخة لجمال صورته فقط أم أن الله هو الذي ألقى محبته في قلب كل من يقابله؟ هل الحب قدر إذن؟ إن كان يوسف قد رأى برهان ربه لأنه نبي فأحجم عن الخطيئة بعد أن "هم بها"، ماذا إذن عن الناس العاديين؟
- بلاء يوسف عليه السلام كان في" الحب" ، لأن حب أباه كان ظاهراً غار منه إخوته ودبروا له مكيدة البئر للتخلص منه، هل كان يعقوب عليه السلام يفرق حقاً في المعاملة بين أولاده؟ هل كان هذا بسبب أخلاق يوسف مقارنة بإخوته؟ مرة أخرى،،كيف يمكن للمرء أن يتحكم فيما ليس له يد عليه:" قلبه" ؟
- إخوة يوسف الآخرين هم الأسباط أبناء إسرائيل، لم إذن سموا "يهوداً" على اسم يهوذا أحد الأبناء ولم يسموا "يوسفيين" مثلاً؟ هل توارث اليهود الغدر وحياكة المكائد وقتل الأنبياء من أجدادهم أبناء يعقوب؟ هل يمكن لهذه الصفات أن توّرث، ماذا إذن عن يهود اليوم، هل علينا أن نعمم ونحمّلهم كلهم هذه الصفات ؟ حكم الله على كل اليهود في القرآن بصفات سيئة كثيرة رغم ذلك قال عز وجل في إحدى الآيات وهو المحيط الحكيم: وأني فضلتكم على العالمين، كم تصيبني هذه الآية دوماً بحيرة بالغة!
- في المسلسل وفي غيرها من قصص الأنبياء، كثيراً ما تكون الحجة: كيف تعبدون شيئاً صنعتموه بأيديكم ..أفكر كثيراً، أليست كل الأصنام - كصنم آمون في قصة يوسف- رموزاً لآلهة لا ترى ؟ أكان الناس يعبدون الحجر أم الرمز والقوة التي أرادوا هم أن يعبروا عنه بتمثال من الحجر؟ بصراحة: أكل الناس كانوا أغبياء وبسطاء لهذه الدرجة؟ هل كانت هذه الحجة قوية بما يكفي؟ ألا يجب أن تكون الحجة أعمق من ذلك كحجة موسى مع فرعون والتي تدور حول القدرة؟ لو تكسر الحجر، هل سيزول الإيمان بالإله الذي يمثله؟
- في النهاية، كثير من المشاهد كانت جميلة جداً في المسلسل: كيف تعامل سيدنا يوسف مع القحط الذي عم مصر، كيف خطط له وكان دوره يتعدي دور الوصاية الدينية وهداية الناس إلى العمل من أجل دنياهم والتفكير والتخطيط بشكل اقتصادي فذ، كيف كان لقاؤه المؤثر مع أبيه وإخوته وكيف تحققت رؤياه بشكل يسيل الدموع حقاً، كيف كانت زليخة نموذجاً لعاشقة سجلت قصتها على مدى التاريخ. كان العمل ككل توثيقاً لمرحلة من مراحل التاريخ وإن كان فسر على أهواء كتّاب السيناريو والمخرج،،مرة أخرى: أليس هذا ما يفعله دوماً كتّاب التاريخ، توثيقه ونقله إلى الأجيال حسب زاوية رؤيتهم؟ كم من الزوايا إذن أعتمت وغابت في أصقاع التاريخ البعيدة....!!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق